ويمدح سيف الدولة فيقول له : لقد وقفت في ساحة القتال في وقت تتخطف فيه المنايا الأبطال من حولك , والموت يحيط بك ، لكن رباط جأشك , وثقتك بالله وبنفسك جعلت عناية الله ترعاك ، والموت يتخطاك كأنك في جفنه وهو غافل عنك فسلمت ولم يصبك سوء , على حين كان الإبطال من جند العدو يمر بك وقد ولوا منهزمين ، أوهنتهم جراحهم , واصفرت وجوههم , أما أنت فقد كنت ثابتا مشرق الوجه , باسم الثغر , ولقد أتيت من ضروب الإقدام , وأظهرت من الجرأة , ورسمت من الخطط ما لم يكن يتصوره عقل حتى قال عنك بعض الناس أنك تعلم الغيب وتعرف أن النصر لك . لقد هجمت على جنود العدو هجمة قوية مذهلة اختل بسببها نظامهم , واختلطت أقسامهم , واشتدت وطأة الهجوم عليهم فهلكوا جميعا , حيث لم تكن منك إلا حملت بالسيوف هوت على رؤوسهم , وما كادت السيوف تصل من رؤوسهم إلى نحورهم حتى تحقق لك النصر السريع الساحق عليهم .
وكان من دلائل شجاعتك وبطولتك أنك تركت الرماح لأنها تضرب من بعيد , وعمدت إلى السيوف التي تقتضي قربا والتحاما بالعدو , فأعليت بذلك شأن السيف وحقرت شأن الرمح حتى لكان السيف يعير الرمح بقلة نفعه وجدواه .
وليس في ذلك من عجب فإن من يطلب النصر العزيز والفتح المبين ليس له من سبيل إلى تحقيق غايته سوى التسلح بالسيوف القاطعة وبأكثر الأسلحة فعالية أو إيجابية .
لقد طرحت جثث القتلى من الأعداء فوق جبل الأحيدب مبعثرة في نواحي الجبل كما تبعثر الدراهم على رأس العروس ليلة الزفاف . ولقد تتبعت أعداءك في رؤوس الجبال حيث توجد أعشاش الطيور الجارحة فقتلتهم هناك وتركتهم طعاما للطير حول وكورها . ولقد ظنت فراخ العقبان حين رأتك تصعد الجبال بتلك الخيول انك جئتها بأماتها لأنها رأت الخيل سريعة منقضة عليها
وكنت إذا زلقت خيلك في صعودها ذلك الجبل الوعر جعلتها تمشي زحفا على بطونها كما تزحف الحياة فوق التراب , حرصا على إدراك العدو وملاحقته .
وفي ختام النص يذكر الشاعر لسيف الدولة حال قائد جيش الروم وفراره فيقول :
إن قائد الروم كان يقدم ويحجم , وعند إحجامه كان الضرب يقع في قفاه مما يجعل قفاه يلوم وجهه على الإقدام الذي نال بسببه هذا الضرب . وإن هذا القائد الذي نجا من يدك , وفر من وجهك المسرور بما بذل من تضحيات , ويعد نفسه غانما لا عن جهل منه بقيمة الضحايا من أصحابه وأدواته ولكن لأنه غنم منك روحه وحياته . وأخيرا يعود المتنبي ليقول لسيف الدولة : أن هذه المعركة التي ألحقت فيها الهزيمة بالروم لا تعد معركة بين ملكين هزم احدهما الآخر و وإنما هي أجل من ذلك وأعظم لأنها معركة الإيمان والعقيدة , كنت فيها رجل التوحيد , وحامل لواء الحق وقائد رجاله , وكان عدوك فيها رجل الشرك والباطل , فقذف الله بحقك على باطل عدوك فدمغه فإذا هو زاهق , وإذا الشرك مندحر , والإيمان منتصر .
رد: شرح وتحليل : على قدر أهل العزم للمتنبي
________________________________________
الدراسة الادبية :
هذا النص يندرج تحت غرض الشعر الحماسي الذي انتشر في العصر العباسي , وهذه القصيدة للمتنبي تعد سجلا تاريخيا يضم مفاخر إمارة عربية صغيرة استطاعت بفضل أميرها وقائدها أن تذيق إمبراطورية عظيمة ويلات الحرب , وتجرعها كأس الهزيمة , وتحول دون مطامعها التوسعية . والمتنبي شاعر العروبة النابه الذي حضر مع سيف الدولة معركة الحدث وأعجب بالأمير فأنشد في تلك المناسبة قصيدته هذه التي هي إحدى قصائده العديدة في سيف الدولة , وقد بدأها في ببيتين في الحكمة يمجد فيهما ذوي الطموح والمتطلعين إلى تحقيق الآمال العريضة , ولعله في ذلك يشبع رغبة في نفسه لأنه كان من أولئك الذين لا حد لطموحهم , ثم تناول بعد ذلك وصف قلعة الحدث وما تعرضت على أيدي الروم , وما نالته على يد سيف الدولة , ثم انتقل إلى وصف جيش الروم في زحفه , ما كان عليه من استعداد كامل وعدد هائل , ثم تحدث عن شجاعة سيف الدولة وبطولته وحسن تخطيطه للمعركة وصور المعركة ثم صور المعركة تصويرا واقعيا استمده مما رآه رأي العين و وانتهى إلى الحديث عن قائد جيش العدو الذي لاذ بالفرار , والأفكار على هذا النحو مرتبة منسقة , والمعاني عميقة دقيقة , واضحة مؤتلفة , تدل على قدرة الشاعر الفائقة في جمع الأفكار والتنسيق بينها في نسق رائع , ونظم جميل وإذا كان بعض هذه الأفكار قد جاء قديما مطروقا فإن بعضها تبدو طرافته وجدته كما في قوله :
بضرب أتى الهامات والنصر غائب وصار إلى اللبات والنصر قادم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم
ولئن كان الشاعر قد لجأ إلى المبالغة أحيانا كما في قوله " بجياد ما لهن قوائم " " تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى " " إذا زلقت مشيتها ببطونها " فإن ذلك أمر مقبول منه لا يفسد المعنى بل يستدعيه المقام
وكان من الجميل فيما عرضه الشاعر تصويره جيش العدو في قوته وكثرته ليجعل بعد ذلك انتصار سيف الدولة عليه شيئا ينطوي عل العظمة ويدعو للفخار
وإنه ليتجلى لنا حين نتأمل النص أن الشاعر كان يعبر عن انفعال صادق وعاطفته جياشة بحب سيف الدولة , والإعجاب به والفرحة بالنصر ورد كيد العدو .
وهذا يمكننا أن ننتهي إلى أن الشاعر بقصيدته هذه كان ابن مجتمعه وعصره يعبر عنهما , ويعكس ما يجري فيهما على مرآة شعره .
الدراسة البلاغية :
عندما نتأمل أسلوب النص نرى أنه جمع بين الأساليب الخبرية والإنشائية بحسب ما يقتضيه المقام , غير أن الأسلوب الخبري كان هو الغالب على النص , وقد قصد منه معظم الأحيان المدح والتعظيم , ولعل الميل إلى الأسلوب الخبري راجع إلى أنه أنسب لمثل هذا الموقف الذي يقف المتنبي ليصف ويمدح عن طريق عرض المشاهد وسرد الصفات كما أن الشاعر أعطى كل معنى ما يلائمه ولذلك نرى أنه عمد إلى التقديم الذي يدل على الاهتمام , في قوله " على قدر أهل العزم تأتي العزائم " , كما نراه حين أراد أن يمتدح السيوف جعلها وحدها حتى تأتي بالنصر , واستعمل لذلك أسلوب القصر في كلمة : إنما في قوله " إنما مفاتيحه البيض " , فالشاعر قصر النصر على السيوف دون غيرها بكلمة إنما التي تقدمت في الجملة .
أما الخيال في النص فقد جاء صافيا يصور المعاني , ويوضح الأفكار , وقد تنوعت فيه الصور بين واقعية مستمدة من واقع المعركة ومشاهدة الشاعر كتلك التي يصور بها جيش الروم والتي يصف بها الدولة ، وبين خيالية من تشبيه واستعارة وكناية .
وكان التشبيه في قوله : " نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم " وغيره من التشبيهات الجميلة التي تبرز المعنى وتوضحه , وإن كان هذا التشبيه الأخير قد اعترض على الشاعر فيه بأن طرق التشبيه غير متلائمين
وجاءت الاستعارة في كثل قوله : " هل الحدث الحمراء تعرف لونها " " موج المنايا حوله متلاطم " " أذن الجوزاء " " جفن الردى " " السيف للرمح شاتم " وبالنص كثير غير ذلك من أساليب الاستعارة التي تقوي المعنى وتثبته
وجاءت الكناية بوفرة في النص مثل قوله : " أتوك يجرون الحديد " فهو كناية عن قوة العدة وكثرتها , وقوله : خميس بشرق الأرض والغرب زحفه " , " في أذن الجوزاء زمازم " فهما كنايتان عن كثرة الجيش . وقوله : " ضمت تموت الخوافي تحتها والقوادم " و فهو كناية عن قسوة هذه الضمة على الأعداء , إلى غير ذلك من الصور البيانية التي حفل بها النص , وساعدت على تبيين المعنى وتأكيده في الذهن ؟
هذا وقد قلت في النص المحسنات البديعية , لأن المتنبي لم يكن من شعراء الصنعة , ولذا فإن ما جاء في الأبيات من ألوان البديع كان حسن الوقع لأنه غير مقصود ولا متكلف , كالمقابلة التي نجدها في البيت الثاني , والطباق في مثل : " ساقها فرددتها " " والخوافي والقوادم "
إما عبارة النص فكانت جزلة رصينة تناسب الغرض , وتجانس الأفكار , فقد اختار الشاعر لكل فكرة ما يلائمها من الألفاظ والكلمات ، ومن أمثلة ذلك أنه عند وصف المعركة استعمل كلمات : الحديد الجياد , خميس , زحف صارم , الفرسان . وعند المدح أتى بألفاظ : وضاح , باسم , بالغيب عالم , النصر قادم . وعند حديثه عن قائد الروم أتى بكلمات قفاه لائم , مغنوم . وهكذا وضع الشاعر كل لفظة في المكان الذي توحي فيه بما يناسب المضمون و ويعبر عن المقصود .
والقصيدة من بحر الطويل ، وأجزاؤه :
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ***** فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن