ثالثا : منزلة الكتاب وأهميته النقدية
أول مؤلف في البديع وصَنعة الشعر، كما أجمع على ذلك جميع الباحثين(3)، فهو على رأس قائمة كتب "ابن المعتز" بالنظر إلى اختصاصه لهذا الفن، ويعد فتحاً جديد ويعترف بذلك "ابن المعتز""و ما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد". وأضاف الدكتور ((إحسان عباس)) بقولـه : ((مع أن الكتـاب قد سمي باسم البديع وهو موضوعه الرئيسي، فإن ابن المعتز أضــاف إليه بعض محاسـن الكلام والشعر، لتكثر فائدة كتابـه، فتحدث في الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج......)) ويبدو هـذا لأن ابن المعتز مصراً على أن لفظة (البديع) لا يتناول إلا الخمسـة الأولى من الكتــاب.
ويعتبر كتاب البديع نقطـة تحول هامة في الدراسات البلاغية والنقدية وعلامة بارزة في مجال النظرية الأدبيـة عند العرب. ومكانتـه في تاريخ البلاغـة تشبه مكانة ((كتاب)) سيبويـه في تاريخ البحوث اللغوية والنحويـة. فهو بإجمـاع الباحثين عربا ومستشرقين أول كتاب جعل من البلاغة غاية في تأليفه، وأول كتاب يتناول الأدب تناولاً فنيـاً.
فمــــا الذي بوأ الكتاب هذه المنزلة ؟
باستطاعة المتتبع لأطوار البلاغـة من البداية إلى نهاية القرن الثالث الهجري أن يجزم بأن قيمة الكتاب لا تكمن في مضمونـه، ولا من حيث عدد الوجوه التي أشتمل عليها، ولا من حيث الصياغة النظرية للبعض تلك الوجوه، وما يتعلق بها من تقسيم وتحديد.
إن قيمـة الكتـاب الرئيسية تكمن في صدوره عن درجات عاليـة من الوعي بمداه وحدوده وتحرك صاحبة من رؤية واضحـة منطلقات وغايات جعلت مادتـه خاضعة لتلك الرؤية لا تتجاوزها فجاء الكتاب مختصراً خاليا من كل مظاهر الاستطراد والحـشو.
ومن أبزر مظاهر الوعي والوضوح اشتمال ((البديع)) على نصوص نظريـة فيها، وعلى قصرها، عون للدارس على إدراك بواعث التأليف وغايتـه والوسائل التي وظفت لبلوغها، مما يسمح بتنزيل الكتاب في سياقه التاريخي على أصح وجه ممكن. وسنحاول الإلمام بوجوه الجدة في هذا المؤلف بالاعتماد على هذه النصوص أولاً ثم على ما يمكن استخلاصه من طريقة عرضة للمسائل وتبويبها.
• فمــاذا نجد في هذه النصوص ؟
يقول ابن المعتز مشيراً إلى فضله على غيره ((وما جمع الفنون البديع وما سبقني إليه أحد)) هو فضل اعترف له به النقاد والبلاغيون فهذا ابن رشيق يؤكـد أن ((البديع ضروب كثيرة وأنواع مختلفة (....) على أن ابن المعتز، هو أول من جمع البديع وألف فيه كتـــاباً........))4
ومن هنا يطرح سؤال عن المقصود بالسبق إلى الجمع، إذ من السهل أن يثبت بأن المادة الواردة في الكتاب ليست استقصاء لما اهتدى إليه سلفه من الأساليب البلاغية، فهو لم يأت إلا على جانب منها، وأشرنا إلى أن ذلك لم يكن غايته.
ومن هنا يتحتم البحث عن معاني أخرى تثبت صحة ما نسبه لنفســـه وتصدق شهادة القدماء له، وفي ذلك تأويلان : أولهما ما ذهب إليه ابن رشيق في الاستشهاد السابق. وثانيهما يؤدي إليه عنوان الكتاب وبعض الإشارات المحددة لغايته.
كمـا أشاهد جابر عصفور بقوله عن كتاب البديع ومؤلفـه تتمثل كل كتابات ابن المعتز التي وصلت إلينا، والتي تنطوي على نظراتـه السياسية وأفكاره الاجتماعية وتصوراته الدينية وممارسته البلاغية وذلك يكشف من خلال هذا النص المتكامل – أي الكتاب - وعن الدلالات الأساسية التي تتسرب في كل مستوياته، والتي لا يمكن فهم أهمية الكتاب إلا من خلال قراءة التراث السابق لابن المعتز، وذلك جلياً لنا بأن يظهر مدى نضج المادة المقدمة في كتابه، ومدى قوة طرحه بنسبة لعصره. ويضيف على هذا يقول ويظهر لنا المثاقفة التي تكون معها ابن المعتز فكرياً، مما جعل الكتاب أكثر منهجيتاً، وتحديداً في أصوله البلاغة والنقدية.
وذكر إحسان عباس بقوله : ((وقد كان ابن المعتز على وعي بأن هذا الفن لم يعرفه العلماء باللغة والشعر القديم ولا يدرون ما هو وما هي الأنواع التي تقع تحتـه، وأنه مبتدع في استقصائه لصورة غير مسبوق إلى ذلك.... ولكن فضله - أي الكتاب - أنه يتمثل في حشد الشواهد على المصطلحات البلاغية من النثر والشعر في القديم والحديث))ومن خلال أقوال النقاد القدماء والمحدثين يظهر لنا جلياً مدى أهمية الكتاب في الدراسات البلاغية والنقدية، وأنه فريد من نوع في هذا الجمال حيث كتب هذا الكتاب ولم يكن هناك من أرسى لهذا الفن قواعده وخصائصه، حيث أن الكتاب يعد النواة لعلم البلاغة العربية؛ ويمس النقد الأدبي بطريقة عارضة،بعد ما شغلوا النقاد أنفسهم ببعض هذه المصطلحات البلاغية في تقويم الشعر.
كما أن ابن المعتز في تأليفه لهذا الكتاب خطوة جديدة في قضية القديم والحديث من الشعر، فبعد أن وصل الشعر المحدث إلى مرحلة المطالبة بالمساواة مع القديم والدعوة إلى النظر بعين العدل والإنصاف عند الجاحظ وابن قتيبة ؛ خطا ابن المعتز خطوة جديدة ظهرت في التأليف بأهم قضية تخص الشعر المحدث، وهي ما لازم شعر الشعراء من اتجاه فني في استخدام الفنون البديعية، والتوسع في استعمال المفردات اللغوية على خلاف ما كان القدماء يستعملونه، فتصدى ابن المعتز للتأليف في البديع، ليقول إن هذه الظاهرة ليست من ابتكار المحدثين، وإنما سبقهم إليها القدماء، فلا داعي لتوجيه سهام النقد، والعيب عليهم.
رابعاً : القضايا النقدية التي تناولها الكتاب :
وعلى الرغم من أن الكتاب يعتبر من الكتب البلاغية إلا أنـه مبني على قضية نقدية هامة أثيرت في القرن الثالث الهجري عندما قام جماعة من الشعراء، أغلبهم من أصل غير عربي، وجهوا عنايتهم إلى الصياغة الشعرية وأشكال التعبير والتصوير الفني، ولم تخل نزعتهم هذه من روح العدائيـة تجاه ((عمود الشعر)) وأملتها خلفيات ((إيديولوجية)) عرقية حضارية عرفت في التاريخ العربي الإسلامي بالنزعة الشعوبية، إلا أنـه كان يخفي صراعا حضارياً هائلا أفرزته تركيبة المجتمع المعقدة والمتوترة بسبب إقبالها على فترة تحول هامة، واحتوائها خليطاً من الأجناس والحضارات والآداب، لم تكن راضيـة كل الرضي بسيادة العرق العربي وتسلطه عليها.
فالروح في التي أملت الكتاب روح نقدية لا بلاغية، بل هي تروح تعكس تمازج النشاطين وبكيفية فريدة، لذلك تعقب ابن المعتز مسالك هذا الصراع ومجاهله، واختار المصطلح الذي استعمله أسلافه من الأدباء والنقاد، كالجاحظ، وابن قتيبة وغيرهم.
ومن هنا فالكتاب ليس فقط كتاب علمي بحت وإنما هو يعكس روح عصره، وما كان يحدث فيها من صراع الأعراق، والثقافات، والأجناس البشريـة، وعلى الرغم بأن ذلك ليس ظاهراً، إلا أنه يظهر للباحث المتزن في هذا الجانب هذا الأمر الخفي الدخيل على المجتمع العربي خاصة والإسلامي عامـة. وبعد أن تعرفنا يمكننا الجزم والقطع بأن هذا الكتاب من أهم الكتب في المجال
البلاغي والثقافي بوجه عام، حيث أمتزج فيه، بين الروح العلمية المنهجية، والروح الحضارية الثقافية في ذلك العصر.
ومن الأسباب الداعية لتأليفه كما ذكرها النقـاد والباحثيـن :-
ذكر الدكتور (إحسـان عبـاس) ((أن الروح التي أملت الكتـاب كانت تمثل جانباً من الحركة النقدية في القرن الثالث الهجري، على نحو معكوس، فبدلاً من إنصـاف الشعر المحدث، ذهب ابن المعتز ينصف القديم، وعن هذا الطريق أكـد بأن الحديث لم يكن بدعاً مستحدثاً، وإنما كان الفضـل فيه للقدمـاء، فالبديع إذن جزء من المورث ،وهو بهذا ذو أصول راسخــة، وليس العيب فيه وإنما العيب في الإفراط في استخدامه، والإفراط مذموم في كل الأمور، وقد عرف ابن المعتز بين أبناء عصره باللهج بالبديع والإحسـاس الدقيق في استكشافه ونماذج بحثـه عنها في الأدب العربي القديم)).
وذكر الناقد الشاعر ((عزالدين المناصرة)) ((أن البديع ولد في الشعر القديم قبل ولادته في شعر المحدثين، وولد البديع قبل أن يولد على يد ابن المعتـز. ويبدو أن نقـاد وشعراء زمانـه، زعموا أنهم مخترعو علم البديع. لهذا كان هدفه الأساسي ,هو إثبات وجود البديع في الشعر القديم بشكل عفوي، ويرى ابن المعتـز، أن بعض المحدثين تعمـد استخدام البديع وأكثر منـه ليستوي على إدعاء الســبق)).
بينمـا يخالف بعض الدارسين للأدب هذه المقولـة وأبزر من قال بها الدكتور: ابتسام مرهون الصفار، حينمـا قالت { من خلال دراستنـا للكتاب ابن المعتز هذا، وآرائه النقديـة الأخرى، وجدنـاه، قد عمـد إلى تأليف كتاب البديع دفاعاً عن الشعر المحدث، بوعي علمي، ودافع أدبي خطط لـه، فوجد أن دوره لا يتـم إلا عن طريق ترسيخ هذا الفن الذي عيب على المحدثين استعماله بوضع أصوله، وإرجاع إلى القدمـاء والأوائل الذين ملكوا الساحة الأدبيـة، وحكموا آراء النقاد المتعصبين ضد الشعر المحدث }
وفي تمحيص ما قاله النقاد أعلاه نجد أن كل ما ذكر أعلاه، فيه جانب من الصواب، غير أن النظر من محتوى الكتاب والآراء المدرجـة فيه يؤكـد لنا بأن كان غرضـه تبيان للفن البديع، مع إثبات أنه راسخ في الشعر العربي القديم، وليـس كما ذكر بعضهم أن مبتدع في القرن الثالث الهجري، كما لا يخفى على الدارس للنقـد القديمـة أو البلاغـة أن هذا الكتاب فيه روح عصره،ويظهر الحركة النقدية والجدل القائم في تلك الحقبـة الزمنيـة – القرن الثالث الهجري -ما بين التعصـب للقديم وتقديسـه،والمجددين في الشعر وأنصارهم، حيث وكأنه يصرح في كتـابه أن الشعر المحدث في تلك الفترة الزمنية لا يعيبه استخدام البديع حيث أن القدمـاء عرفوه وورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشـريف غير أنه لم ينضج كعلم بحد ذاتـه وأن المصطلحات العلميـة لم تعرف قبل ذلك الوقت ولهذا قام بتأليـف الكتــاب. ولا يهمنا إثبات رأى عن أخر وإنمـا المهم في الأمر هو ما قدمه الكتاب للنقد العربي والبلاغة العربيـة.حيث وضع وقسـم الكتـاب ليحتذي بـه الشعراء المحدثون حذو القدماء في الجيد من البديع، وهو في كثرة شواهده التي اختارها يدلنا على ذوقه الأدبي الرفيع من جهة، وعلى النزعـة العربيـة الخالصـة في التأليف من جهة أخرى.
• تنويه : تأثر الكتاب بالثقافات الأجنبية
ذكر د. طه حسين أن كتاب البديع أن به أثراً بيننا للفصل الثالث من كتاب الخطابة لأرسطوا، أو بعبارة أدق أن للقسـم الأول من الفصل الثالث وهو الذي يبحث في العبارة، والكتاب لا يؤيد هذا الظن، إذ كل ما فيه عربي خالص، وقد ألفه ابن المعتز مقاومـة لمن يلتمسون قواعد البلاعة في المصنفات القديمـة اليونانيـة.
ونرى في هذا القول مبالغة مفرطـة، فابن المعتز لم يؤلفـه مقاومـة للتيار الثقافة اليونانية، ولو كان القصـد قصـده هذا لما أحجم عن ذكر ذلك والإشارة إليه، ولكنه صرح بما لا يقبل الشـك بأنه ألفه، ليثبت أن القدماء عرفوا فنون البديع، ولو كان ابن المعتز مطلعاً على قواعد البلاغة اليونانية، لأفاد منها متمثلاً، أو ناقـش لآراء فلاسفتها، ولكن كتابه – كمـا يبدو من مصادره – عربي في أصوله الثقافـية، عربي في طريقة عرضـه ومعالجتـه لأنواع البديع، ويكفي أن نقارن بينه، وبين نقـد الشعر لقدامة بن جعفر لنجد الفرق بين المنهجين.
وقد رفض د. على الجندي : أن يكون الكتـاب متأثراً بالبيان اليوناني (ولو أن الجناس كان منقولاً عن اليونان، لعثرنا على أثر هذا النقل، ولو في مثال واحد على الأقل).
وأكـد ذلك قول د. حمادي حمود : أن الكتاب كان على أسس عربية صريحة وصحيحة في محاولة للإرساء علم البلاغة والنقد، وبهذا كان أول كتاب يتناول الأدب تناولاً فنياً
ومن هذا لا يعيب حتى الكتاب أن يكون على أسس عربية أو يونانيـة
بالمعرفة الإنسانيـة متناقلة عبر الأجيال فإن كان ذا أساس عربي أو يوناني فالمهم فيه هو ما يحتوي من نقاط هامة في الدراسات النقدية والبلاغية